قاطع تذاكر الإنترنت
شهدتُ ظواهر الإنترنت وعاصرت نموها في سنوات مراهقتي. فقد عملت أثناء دراستي للثانوية (٢٠٠٩م) كموظف استقبال في أول مقهى إنترنت في منطقتنا وأكبرها. باحتوائه أكثر من خمسين حاسوبًا، وبجلسات فاخرة مفتوحة لسبعة أيام بالأسبوع وعلى مدار الساعة، كانت سعر الساعة المؤجرة على الزبون ١٥ ريالًا. لم يمتلك أي شخص أعرفه حينها اتصالًا بالشبكة في منزله، كل من عرفتهم ارتادوا المقاهي لتصفح الإنترنت.
عملت في المقهى لمدة ثلاث سنوات. وكان بوابة للتعرف على الشبكة العنكبوتية مثلما سميّت حينها. امتلكتُ -بعد خبرة بالعمل في مكان كهذا- معرفةً تمكنني من تخمين غاية الزبائن من زيارة المقهى. لماذا يأتي؟ وبماذا يقضي وقته فيه؟ كل زائر له حاجة.
نوع يأتي للدخول على مواقع الدردشة الكتابية الرائجة مثل “شات الشلّة“. ويضحك آخر بصوته العالي على البالتوك، موقع المحادثات الصوتية، ومقيم اشترى بطاقة “زاجل” للاتصال على هاتف منزله الموجود بقرية نائية. لحظت نوعًا من الزبائن أكثر اتزانًا من بين الراكضين نحو بوابات الإنترنت المشرّعة حديثًا، من يقصد الإنترنت للكتابة والقراءة المطوّلة. وفقًا لتصنيفي، لم يزد عدد هذه الفئة عن ٥٪ من الزوار، وكان فيهم شيئًا يصارع للاندماج مع بقية الزبائن. افتقدوا هدوءًا مطلوبًا لقضاء وقتهم.
وكان هنالك المدونون
ساعد حراك المدونات في بداية وصول الإنترنت بالمنطقة على خلق مجتمع من نوع جديد. كان للتدوين طابعًا فريدًا في بداية انتشار الإنترنت بالعالم العربي. تعرّف ذلك المجتمع على الآخر المختلف عنهم، مثل صدمة القراء بشأن تدوينة الكاتبة عن تجربتها في العمل بمكان مختلط بدولة خليجية أكثر انفتاحًا. وكتب مدوّن قصة على أجزاء دعت لشراء الكتاب المنشور لمعرفة خاتمتها. مارس الكتّاب والقراء ما أحبوه بمجتمعهم الصغير، لكنّ دوافعهم لم تُفهم، نظر الآخرون إلى المدوّن وقارئه ولم يجدوا الحافز الواضح.
لا يفهم البعض مغزى التدوين وجدوى الوقت المبذول فيه. مع زخم التجارة الإلكترونية والأموال المدرّة من مبيعاتها، غفل هؤلاء عن أحد أهم عوامل تطويع الإنترنت لصالحهم. كتبت الشهر الماضي بنشرتي البريدية عددًا بعنوان “وهم إيكاروس”. تناولتُ فيه مفهوم اقتصاد الاتصال، حيث نعيش بزمنٍ يُشترى الانتباه فيه بالمال. أنت حر في اختيار صيغة للمحتوى الذي تستثمر فيه جهدك ووقتك، ويمكنك نشره بأي قناة تعجبك. ما يهم حقًا هو الانتباه الناتج عن عملك. هل يقف إبهام المستخدم عن حركته السريعة لتفقّد ما تصنع؟
أما عن نفسي، فقد تأخرت كثيرًا عن العمل عبر الإنترنت. أقول كثيرًا لأنني عملت بهذا المجال بسن الخامسة عشر أثناء انتشاره، كان بالإمكان لتلك الفرصة حينها أن تهيئ المبادر لها بأن يصنع نجاحًا لافتًا. والمؤسف تكاسل البعض عن إدراك طبيعة الأمور الحالية. يستطيع أي راغب بالعمل بهذا المجال أن يتجاوز توقعاته الشخصية مهما كانت. ربما انشغل المستخدم باستهلاك المحتوى اليومي عن اتساع العالم الرقمي. هل يدرك هؤلاء استقبال المستخدم المبكّر وصدمته تجاه عالم الإنترنت وإمكانياته؟
صدمة الوصول إلى أصقاع الأرض المتاحة من قبل الإنترنت
تصعب علي كتابة ما أوشك على كتابته، ولو لم أشهد ذلك بعيني لم أكن لأكتبه. كموظف في مقهى إنترنت بعام ٢٠١٠، رأيت زبائن لم يخرجوا من باب المقهى لأكثر من شهر كامل. على طاولة الكمبيوتر، مشدوه بشاشة أدخلته إلى عوالم، نام وأكل على الطاولة. جلس العديد منهم بالأيام ولم نتفاجأ -إدارة المقهى- مقارنةً بغيرهم. كان المحل مفتوحًا ٢٤ ساعة باليوم، سبعة أيام بالأسبوع. مع خدمات تقديم الوجبات والغرف الخاصة.
قد يبدو ذلك مستهجنًا، ولكنني أتفهم ما كان يحصل. الإنترنت ليس مجرد مساحة لعقد الصداقات وممارسة التسلية، لن أبالغ بوصفه من أكبر المنجزات الحضارية. أدارت به كبرى المؤسسات أعقد عملياتها. فهل يصعب جني مال كلقمة عيش من خلاله؟
أشاركك حدثًا معتادًا لموظف مقهى إنترنت قبل ٢٠١٠:
يرن هاتف الاستقبال يومًا بمنتصف العمل:
“ألو؟”
“السلام عليكم”
“وعليكم السلام”
“الله يعطيك العافية، أود التحدث مع زوجي، أعرف أنه يقضي وقته عندكم”
“من زوجك؟”
“فلان”
-أنادي على زبون معروف يقضي ليالٍ عديدة بالمقهى-
“أهلك يتصلون”
“لا أريد الحديث معهم”
أذكر هذه الموقف لنتأمل معًا تعلّق المستخدم بحاسوبه في أيام الإنترنت المبكرة، فتخيّل ما قد نتّجه إليه.
لماذا أبدأ بالتدوين؟
أكتب هذه التدوينة بالتزام شخصي كبير. فباختياري للكتابة كمهنة رئيسية، قرّرت البدء بتجربة حياتية جديدة. أود الهروب من قيد الوظيفة، والانتقال بعد عشر سنوات من العمل في كبرى الشركات إلى عمل مستقل عبر الإنترنت. أتساءل أحيانًا إن كانت كتابة الإعلانات خيارًا مهنيًا موفقًا، إذ يتوجب عليّ شرح ما أقصد للسائل في كل مرة يرد ذكرها. لا أعلم بالتحديد إن كان هذا مؤشرًا جيدًا أو لا، ولكنه يشعرني بالحماسة.
تبشر الأمور بالخير بعد ثلاثة أشهر من الإنطلاقة. نما حسابي في تويتر وتجاوز ١٠٠٠ متابع رائع. أعمل مع العملاء بلا انقطاع، إلى الحد الذي أخرني عن الالتفات لهذه المدونة والبدء بالكتابة. أفكر في مشاركة تفاصيل تجربتي في الانتقال على العلن ليستفيد من هو بنفس الحال، ولأنني لم أجد قصصًا تشبه قصتي على حد علمي.
الإنترنت مكان شاسع. مهما كانت توجهاتك، انطلق وجرّب، جرّب وحسب.
ها أنا افتتح مدونتي وأقدم نفسي لكم، فأهلًا وسهلًا بكم
شارك هذه التدوينة وادعمني برحلتي