اسأل متخصصًا في الأدب عن سر كتابة رواية مؤثرة، وسيأتيك سيلٌ من النصائح والتوصيات. سيخبرك الكثير من الكتّاب عن طرق وأساليب الحبكة، بناء الشخصيات، أفكار الثيمات، وستجد أن القصة هي عالم شديد التعقيد في تكوينه. وقد يكون ذلك صحيحًا. غير أن لبعض النصائح أثرًا مختلفًا في التجربة، وهذا ما حدث معي. أكتب هذه التدوينة لأعطيك شيئًا جديدًا تجرّبه، فقد وجدت فيه أداة حسّنت من كتاباتي القصصية بشكل ملحوظ؛ وهو مفهوم القصدية.
كتب روبن دانبار (Robin Dunbar), وهو مفكّر أنسنة (Anthropology) من أصول إسكتلندية، عن مفهوم سمّاه القصدية (Intentionality). وهو مفهوم يعني القدرة على إدراك أن الآخرين يفكرون، بالمعتقدات والأفكار والنوايا، لدرجات معقدة. قد تبدو هذه الفكرة بديهية للوهلة الأولى، إلا أن ذلك قد يكون مفتاحك لإنتاج عمل قصصي يفوق التوقعات.
مثلما نتفاعل في واقعنا مع الآخرين، كذلك شخصياتنا في الروايات تتفاعل مع بعضها البعض في العوالم المتخيلة. وللشخصية وإن كانت متخيلة، نية ومقصد، تبيّن شيئًا ما لشخصية، وتخفيه أحيانًا عن أخرى. فالشخصيات تفكر بداخل القصة، ويعكس ذلك فهمنا لطبيعة النفس البشرية وتعقيداتها. يسمي روبن دانبار هذا التفاعل بدرجات النية (Orders of Intentionality).
لكي نشرح ذلك بشكل مبدئي، أن تكون لديك مستويات في القصدية فهي كالآتي:
المستوى الأول: أدرك أن لدي اعتقادًا
المستوى الثاني: لدي اعتقاد حول اعتقادك
المستوى الثالث: أعتقد أن لديك اعتقادًا حول اعتقادي.
للمستوى الأول وعي بالذات، وللمستوى الثاني وعي بالآخر، ويقال أن للقرود إمكانية في ذلك. أما المستوى الثالث، فهو المتوسط في راوي القصص. ويقال أنك لا تستطيع إنتاج شيء استثنائي في هذا المستوى، لأنك كي تكون راويًا استثنائيًا، يجب أن تعمل بمستوى من القصدية يتجاوز المستوى الثالث. أما إن كنت عالقًا في هذا المستوى من القصدية، فلن تكون القصة استثنائية.
ومن أفضل الأمثلة من كلاسيكيات المسرح، هي مسرحية عُطَيل لشكسبير. فإن أردنا تلخيص القصة نقول:
أراد إياغو أن يقنع عطيل بأن حبيبته، ديدمونا، تُحب كاسيو، وأن كاسيو يُحب ديدمونا. هذه أربع درجات من القصدية، وهي تتجاوز المتوسط. لكننا إن حسبنا نية شكسبير ككاتب، كونه كتب المسرحية وأراد أن يُصدقها الجمهور، فتكون درجات القصدية ست: أراد شكسبير أن يُصدق الجمهور بأن إياغو أراد أن يقنع عطيل بأن حبيبته ديدمونا تُحب كاسيو، وأن كاسيو يُحب ديدمونا. فأصبحت تلك ست درجات من النية.
لم أحب شكسبير يومًا، لكن انتباهي لهذا التعقيد في أعماله جعلني أفهم لمَ هو بهذه المكانة الأدبية، فتلك عبقرية بالفعل.
جرّب استخدام درجات معقدة من النية في كتاباتك وأخبرني عن النتيجة.